شهر القرآن

نشر بتاريخ: أربعاء, 23/05/2018 - 1:43م

شهر رمضان له فضل كبير وميزة خاصة تميزه على سائر شهور السنة، فكان تميُّزُ هذا الشهر المبارك لأنه يضم في ثنايا أيامه ولياليه عبادات عظيمة ذات أجور مضاعفة، فهو شهر الرحمة والمغفرة والرضوان، فمن أدركه من أهل الذنوب والمعاصي ولم يضع فيه عن كاهله أثقال معاصيه وسيئاته فهو إنسان شقي بعيد عن الله وعن هديه.

وقد اختار الله تعالى هذا الشهر المبارك أن ينزل فيه كلامه على خاتم أنبيائه رسله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أول نزولٍ للوحي حاملا معه الآيات الأولى من كلام الله، والنبي في حالةٍ من الروحانية الربانية وهو يتعبد الله في غار حراء، وكان ذلك قبل سنوات من فريضة الصيام التي اختار الله أن تكون هذه الفريضة العظيمة في هذا الشهر المبارك، حيث لم يشرع الصيام إلا في السنة الثانية للهجرة النبوية، ووراء هذا سر إلهي عظيم، فقد جمع الله من العبادات في هذا الشهر ما لم يجمع في غيره من الشهور.

وكما هو معروف من أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة بأن هذا الشهر كان النبي يخصه بعظيم من عبادته في خلواته التي كان يختار لها وقتا من السنة يعد لها العدة في سائر السنة، فكان شهر رمضان من بين الشهور التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يخصها بالانقطاع فيها إلى الله للعبادة والتفكر في عظيم ملكوته.

يقول الله تعالى في شأن نزول القرآن في شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} 

ففي هذه السورة المدنية ذكر الله تعالى أنه أنزل القرآن في شهر رمضان الذي فرض الله فيه الصيام بعد مرور سنوات من نزول طائفة كبيرة من القرآن، فكأن الله اختار هذا الشهر لنزول القرآن لما يعلم سبحانه وتعالى أنه سيختاره لفريضة الصيام، وأنه سيجعل ليلة واحدة فيه هي خير من ألف شهر، والتي ذكر الله عنها بأنه أنزل فيها القرآن على اختلاف الروايات بين نزوله دفعة واحدة إلى سماء الدنيا، أو بأن المقصود هو أن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر؛ ليجتمع في هذا الشهر الكريم عظيم العبادات والطاعات، فيكون موسما جامعا لأعظم الطاعات كتجارة موسمية يستطيع المسلم من خلاله أن يفوز بأعظم الأجور وجزيل الثواب في وقت قصير.

فقد جعل الله لهذا الشهر قدسية خاصة وروحانية متميزة يجد المسلم معها نفسه أقرب إلى فهم القرآن وتأمل معانيه والتأثر بمواعظه وزواجره أكثر من أي وقت آخر.

فارتبط القرآن برمضان ارتباطا وثيقا منذ نزول أول آياته في هذا الشهر الكريم وزاد هذا الارتباط متانة ورسوخا بعد أن فرض الله الصيام وسن القيام في هذا الشهر المبارك، فينبغي أن يكون هذا الشهر الكريم موسما ينال فيه القرآن عناية خاصة بالتدبر والتأمل والبحث في معاني القرآن الكريم ودلالاته الواسعة ليكون محطة تزود من الهدى والتقوى لما يستقبل المسلم من سنته.

فعلى قارئ القرآن أن يعد عدته لفهم كتاب الله في هذا الشهر الكريم ولا يكن كل حرصه واهتمامه بأن يختم عددا من المصاحف في هذا الشهر لأن هذه فكرة غير سليمة ولن يستفيد قارئ القرآن من القرآن إلا بقدر ما فهمه منه، ولن يأت الفهم إلا بالتأمل والتدبر وليس بكثرة مرور القارئ على الآيات مرورا سريعا، فهذا التصرف مع القرآن الكريم هو ما جعل معظم الناس لا يخرجون من قراءتهم للقرآن الكريم بما يريد الله لهم من قراءته من الهدى والنور والصلاح، مع أن كثيرا من قارئي القرآن تجده قد قرأ القرآن مئات المرات.

 فيا قارئ القرآن احرص في قراءتك أن تفهم من القرآن ما يمكن لك فهمه، ولا تكن عجولا مهتما بإتمام قراءة المصحف بأسرع ما يمكن لتعود مرة أخرى إلى قراءته من جديد بنفس هذه الطريقة، فهذا التعامل مع القرآن هو الذي أمات القرآن فأصبح وكأنه كتاب يقرأ لنيل البركة وجمع الحسنات بالمرور على آياته وترديد أحرف كلماته.

ومن أحب أن يعرف كيف يقرأ القرآن عليه أن يعود إلى كلام إمام الكلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه حيث يقول فيمن يقرأون القرآن على وجهه وكما ينبغي: (أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزِّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم ).

وقد ورد في الحديث الصحيح أن القرآن يأت يوم القيامة مخاصما قارئه، فاختر لنفسك من تكون، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وَآله وسَلَّم: ((يأتي القرآن يوم القيامة له لسان طلق ذلق ماحل مصدق، وشفيع مشفع، فيقول يارب: جمعني فلان عبدك في جوفه، وكان لا يعمل فيَّ بطاعتك، ولا يتجنب فيَّ معصيتك، ولا يقيم فيَّ حدودك، فيقول: صدقت، فيكون ظلمة بين عينيه، وأخرى عن شماله، وأخرى عن يمينه، وأخرى من خلفه، تبتزه هذه، وتدفعه هذه حتى يذهب به إلى أسفل درك من النار، قال: ويأتي القرآن يقول لآخر: يارب جمعني عبدك فلان في جوفه كان يعمل فيَّ بطاعتك، ويتجنب فيَّ بمعصيتك، ويقيم فيَّ حدودك، فيقول صدقت، فيكون له نور كما بين السماء والأرض حتى يدخل الجنَّة، ثم يقال له اقرأ وارق، فيقرأ ويرقى حتى يساوي الشهداء هكذا، وجمع بين المسبحة، والوسطى)).        

فينبغي على قارئ القرآن أن يتأسى بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان خلقه القرآن بمن قرئ القرآن كما يليق من عُبَّاد الأئمة وصالحي المؤمنين، ولنا في حليف القرآن الإمام زيد بن علي سلام الله عليهم خير أسوة وقدوة، فقد مكث سلام الله عليه يتأمل القرآن ويستنطق آياته سنوات عديدة حتى عُرف بين المسلمين بحليف القرآن، فحركته آيات القرآن نحو الأمر بالمعروف وإنكار المنكر والجهاد في سبيل الله، ولذا ورد عنه سلام الله عليه أنه كان يقول: وَاللَّهِ مَا يَدَعُنِي كِتَابُ اللَّهِ أَنْ تُكَفَّ يَدِي، وَاللَّهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنَ الْعَارِفِيْنَ بِهِ أَنْ يَكُفُّوا أَيْدَيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْمُفْسِدِيْنَ فِيْ أَرْضِهِ.   

وقد أراد الله من القرآن الكريم أن يكون منهاج حياة للمسلم وليس المقصود منه فحسب ترديد آياته للبركة وطلب الأجر والثواب، فقد يحصل للمسلم أضعافا مضاعفة من الحسنات حينما يقرأ القرآن لتطبيق آياته والعمل بتعاليمه.

ومن أجل ذلك ورد النكير الإلهي على من يقرأ القرآن بقلب مقفل، قال الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}              

لو تعامل المسلمون مع القرآن باعتباره دستورا لحياتهم لتغير حالهم إلى العزة والكرامة والمنعة.

 القرآن يريد للمسلمين أن يكونوا أمة واحدة قوية، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 

وهو يريد لهم أن يتعاملوا مع بعضهم من منطلق الإخاء الإيماني قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 

وحينما يتعاملون فيما بينهم تعامل الإخوة ستنتهي بينهم العداوات والبغضاء التي شبت نارها بينهم بسبب بُعدهم عن القرآن، وفتحوا بذلك لأعدائهم بابا للإيقاع بينهم وتجييش بعضهم على بعض.

 لو تعاملت الدول المعتدية على اليمن من باب أخوة الإسلام والنصح الخالص لما حصل كل هذا القتل والدمار والخراب، ولا استطاعوا أن يصلوا إلى مكان من الاحترام والتقدير لدى اليمنيين من باب الأخوة لو كانوا يعقلون.

حين ابتعد هؤلاء الأعراب عن تعاليم القرآن سلموا أزمة أمورهم لأعداء الإسلام من الأمريكان والصهاينة وقوى الغرب وارتموا في أحضانهم وكأنهم هم الإخوة، ونصبوا العداوة والبغضاء للمسلمين، وبل ونفذوا خطط أعداء الإسلام في إثارة الحروب في مختلف بلدان المسلمين.

وفي نفس الوقت هرولوا خاضعين نحو العدو الأول للمسلمين الكيان الصهيوني، ومدوا جسور العلاقة والتطبيع معه بمختلف أشكالها، ولم تعد قضية فلسطين والقدس الشريف ذات أهمية لديهم بل يعملون على بيع القضية برمتها والسعي إلى تصفيتها بصورة كاملة.

لو اتخذ المسلمون من القرآن منهجا ودستورا لما احتاجوا إلى أن يقلدوا الثقافات الوافدة الدخيلة على الأمة تحت أغطية زائفة تارة تحت غطاء ما يعرف بحقوق الإنسان وتارة باسم عنوان حقوق المرأة وتارة تحت مبرر الحقوق والحريات.

لو التزم المسلمون بتعاليم القرآن لكانت حياتهم حيات أمن واطمئنان وسكينة، يعيشون كأنهم أسرة واحدة، فقد منع القرآن ما يعكر صفو المجتمع المسلم، فمنع الغيبة والنميمة والسخرية والكبر والتطاول قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} وقال عز وجل {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 

لو كان القرآن دستور المسلمين لما وجدنا الثراء الفاحش عند بعض بلدان المسلمين والفقر المدقع لدى بلدان أخرى؛ لأن الله أراد أن يكون المال مصدر سعادة للجميع إذا التزم المسلمون بتعاليم القرآن في المال، قال تعالى :{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }   

لو كان القرآن لدى أهل الإسلام هو فعلا الكتاب الذي يزعمون أنهم يقدسونه لما عمت المعاملات الربوية سائر بلدانهم حتى أصبحت لديهم أمرا طبيعيا، وعملا مألوفا، كيف يرضون بذلك وهم يقرأون في القرآن ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130}  وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } 

فحري بهذا البلد المؤمن (اليمن) وقد أعانه الله على التخلص من كثير من الطواغيت وقد ثبته الله لأكثر من ثلاث سنوات وهو يواجه فيها هذا العدوان الظالم الذي لم يسبق له مثيل، حري به أن يعمل على تطبيق منهج الله وشرعه ـ الذي جاء به القرآن ـ في مختلف جوانب الحياة، فالفرصة سانحة والظروف مواتية حتى يستحق من الله نصرا أكبر يكون تأثيره خيرا وصلاحا يعم وينتشر ضياؤه إلى أرجاء المعمورة بإذن الله تعالى.

الدلالات: